سأكتب هذه الكلمات وأنا متيقن تماما بأن ولي العهد السعودي هو من أمر بقتل (خاشقجي)، وبالتالي كل ما سأكتبه سيكون نتاج هذه القناعة. نُشرت تعليقات مثل "سيكتب التاريخ أن السعودية نفَّذت عملية اغتيال استخباراتية سرية علم بها الجميع" وقيل ساخرا "لا ينبغي لنا أن نلوم السعودية على طريقة اغتيالهم لخاشقجي، فليس لديهم الخبرة في ذلك فآخر محاولة اغتيال قاموا بها كانت قبل 1400 سنة عندما حاولوا اغتيال الرسول"، ورأينا الكثير من التعليقات المشابهة الساخرة من عملية اغتيال خاشقجي كونها عملية غبية. لكن هل فعلا نفذوا هذه العملية دون أن يحسبوا حساب لما ستأتي بعدها من ردود أفعال وتبعات؟ على ماذا عوَّل بن سلمان والذين قرروا قتل خاشقجي؟ هل فعلاً كانوا يعتقدون بأن الشارع الدولي سيصمت على جريمتهم، وإن صمتت الشرعية الدولية عليها؟ لنفكر مثلهم لمعرفة ما كان يجول في خاطرهم وعلى ماذا كانوا يبنون حساباتهم.
أُكلتُ يومَ أكلتَ الثورَ الأبيضَ
بن سلمان ومن أدار معه عملية قتل خاشقجي، رأوا صمت المجتمع الدولي إزاء الكثير من انتهاكات القضايا والملفات الإنسانية والسياسية دون أخذ أي إجراء لوقفها، فهذه سوريا، قُتل فيها ملايين المدنيين والمسلحين والمجتمع الدولي صامت، استُخدِمت مواد كيميائية على المدنيين، ولم نرَ أي إجراء يؤخذ على الأقل لمنع تكرارها مرة أخرى، فما بالك بمعاقبة مرتكبيها؛ مشهد الانتهاكات تتكرر والمجتمع الدولي أخرس أطرش، فبعد كل استخدام كيمياوي نسمع تهديدات فارغة لا يحسب لها حسبان، بل أصبح انفلات المنفذين من العقاب من شواهد العصر ويوميات نعيشها، بن سلمان ومن حوله كانوا يستشعرون بها أكثر منا، فعلى إثره ظنوا أنهم سينفذون مهمتهم على قتل الصحفي وأعلى خيلٍ تركبه هذه المنظمات يمكن أن تكون بيانات يُدينون بها "بأشد العبارات".
فللأمير ولي العهد سوابق في هذا الصدد، في الحرب على اليمن أو في بلده، ففي اليمن قتل عشرات الاف من المواطنين فضلا عن تجويع الملايين والأمر مستمر دون أي عقاب، أما المملكة فأصبحت مملكة الصمت، بل حتى من يصمت يحاسب على صمته، عشرات العلماء والدعاة والأئمة والنشطاء يقبعون في غياهب السجون السعودية فقط لأنهم لا يغردون على هوى الأمير، والعالم كله يشاهد ولم ينبس ببنت شفة ليوقفوا الأمير عند حد، استشعر بن سلمان بكل هذا الصمت تجاه ما يحدث في العالم فحاور مع نفسه: من لم يحركه إحساس الإنسانية بعد مقتل مئات الاف في سوريا كيف سيشعر بمقتل صحفي! محال أن يحدث هذا! فأقدم على الفعل الشنيع، لذلك اذا كانت إحدى الدول الغربية ستتذمر بشأن مقتل الخاشقجي فلتلُم نفسها؛ لأن خاشقجي قتل يوم أكل الثور الأبيض، وهذا أول ما وجدنا داخل رأس ولي العهد.
المصلحة أولاً
كاد أن يمر مقتل الخاشقجي مرور الكرام وأن يكون حدثا هامشيا، لولا تصرف تركيا، والإعلام مع القضية. فتركيا البلد المضيف لأحداث خاشقجي تحرك بدهاء لا مثيل له
النقطة الأخرى التي حفزت بن سلمان ليأمر بقتل خاشقجي هو أنه وجد المنظومة العالمية مشلولة والدول الكبرى لا تحركها سوى مصالحها، فهم مستعدون لحرق الأخضر واليابس لمصلحتهم، لا تهمهم شعارات براقة كالحريات والحقوق والعدل والى غير ذلك من الشعارات، فإذا كانت بعض النظم والحكومات الغربية استخدمت نوعا من "التُقيا" فتبرم اتفاقيات سرا مع الدول التي تدينهم علنا، بسبب خروقاتها في حقوق الانسان، إذ أن ترمب ليس من ذلك النوع، فمن اليوم الأول أظهر وجه أمريكا الذي أخفاه من سبقه من الرؤساء، ترمب يصرح جهرا بأنه لا يهمه خزعبلات الحرية وحقوق الإنسان في دول من الطرف الآخر من العالم، يهمه المال الذي ستدفعه تلك الدول لأمريكا فتحميهم أمريكا من كيد الكائدين، وانت في دولتك افعل ما يحلوا لك لا نكترث الا بخزائنك، ما جعل بن سلمان يتحفز لمثل هذا التصرف والتطرف في "المصلحة أولا" ائتمن على نفسه وحمل كيس المال بيد والمنشار باليد الاخر ليقتل خاشقجي بيد ويدفع الدية باليد الأخرى، ولكن ليس لذوي خاشقجي؛ بل لترمب، وهذا أيضا ما وجدناه في دهاليز تفكير الأمير.
لولي العهد "رب" يحميه
بل لولي العهد ترمب يحميه، إذ رأى من قبله "التجربة الأسدية"، بتشبث بشار الأسد بكرسيه، وقتل مئات الاف من مواطنيه وشرد الملايين منهم ودمر الوطن لأجل كرسي الرئاسة المبجل، لم يكن باستطاعة بشار البقاء ربع هذه الفترة وأن يدمي وطنه كل هذه الدماء لولا أن له بوتين يحميه، فتحمس بن سلمان للفكرة، من أخاف! ولديَّ (كوشنر) وحماه يحمينا، أقتلُ خاشقجي ومن وراءه، فلا يجرؤ أحد أن يدعس نملة وويتقدمه فيل الجمهوريين، هذا ما كان يجول في خاطره، فمنذ أن اعتلى ترمب كرسي الرئاسة وكثير من النظم الدكتاتورية في المنطقة اتكؤوا على حجر يثبت أقدامهم، يعيثون في الأرض ظلما وهم متيقنون أنهم لا يحاسَبون بل يدفعون الحساب "كاش"، وهذا المبدأ "الحماية مقابل الولاء التام المطلق" كالأسد لبوتين وبن سلمان لترمب جعلهم يتمادون لدرجة "نشر" مواطنيهم في قنصلياتهم، في مشاهد لم تُرَ الا في الأفلام الهوليودية.
لكن ما الذي أفاق العالم من نومه؟
هل كان بن سلمان خاطئا في حساباته؟ لنكون منصفين؛ الرجل لم يخطئ؛ بل كاد أن يمر مقتل الخاشقجي مرور الكرام وأن يكون حدثا هامشيا، لولا تصرف تركيا، والإعلام مع القضية. تركيا البلد المضيف لأحداث خاشقجي تحرك بدهاء لا مثيل له، إذ جعل من الحادثة حدثا عالميا، ولم تسمح بفتور القضية، فأوقدتها بنار التسريبات المتواصلة وجعلتها مسلسلا مشوقا ومثيرا، وإن أطالت الحلقات؛ إلا أن كل حلقة متجددة بأحداث ومعلومات ودراما، وجعلت العالم كله يغلي باستراتيجية الانتظار، لم تكن لمصلحة تركيا إغلاق القضية دون عقاب، ولم تشأ مواجهة السعودية وحدها، فجعل أردوغان بدهاءه العالم بصَفِهِ ومن ثم أستدار لغريمه في الحلبة.
انهال فيها على الخصم بضربات متواصلة دون أن تعطي له مجال التفكير، لكن دون القضاء عليه أيضا حتى يرى الجميع ضعف وحقيقة خصمه "السعودية"، والإعلام بجانبه ركز بشكل كبير على قضية خاشقجي وجعلها محور الاهتمام فحشدَ الرأي العام العالمي ضد السعودية ورسم الإعلام الوجه الحقيقي للسعودية والأمير للرأي العام العالمي، فتعكر وجه السعودية وتجلت الحقيقة وأُسقط القناع فرأى الكل البشاعة المتراكمة وراء تجميل الانفتاح وقناع الحرمين، لولا التصرف التركي وإهتمام الاعلام؛ لأنسانا ترمب القضية ولجعل منها حدثا هامشيا، وفي البداية بالفعل حاول فعل ذلك، فصمت عن القضية لمدة أسبوع بعد مقتل خاشقجي، ولكن ما لبث أن وجد نفسه محشورا في الزاوية مصطفاً مع الطرف الخاسر؛ فغيّر من نبرته تجاه السعودية والقضية.
فلا ننسى أنه تاجر ويتعامل مع كل الأمور بمنظور التجارة، لذلك بدأ بالتصعيد من لهجته ضد السعودية وضد بن سلمان، لدرجة التبرؤ منه عندما قال "أكاد أعرف ولي العهد السعودي" وبعدها ليهدد السعودية بأشد عقاب في حال إثبات ضلوعها في مقتل خاشقجي، وبقي بن سلمان يتأمل نجاح خطته، وأن يخرجه ترمب من العجينة، ترمب لم يترك فرصة وإلا انتهزها لإخراج الأمير مما تورط فيه، فبعد الرواية الرسمية للسعودية لقتل خاشقجي غرد ترمب مسرعا بأنه يثق في الرواية التي لم يصدقها أحد.
أمريكا وأوروبا كانوا مستاؤون من مقتل خاشقجي ولم يأبهوا للسجل الطويل للانتهاكات الحاصلة لحقوق الإنسان في السعودية، بل أكثر من هذا، إنهم مستاؤون لطريقة قتل خاشقجي الوحشية لكن ليس للقتل نفسه، نتلمس هذا في تصريح ترمب عندما قال: تم تنفيذ عملية قتل خاشقجي بطريقة رديئة، وعملية التستر كانت الأسوأ في تاريخ هذا النوع من العمليات؛ يمكن أن يكون زعماء أوروبا وأمريكا غاضبون من بن سلمان بسبب عدم تنفيذه العملية "بطريقة جيدة"، وليس للعملية نفسها، ونخرج من جولتنا داخل رأس بن سلمان باستنتاج وهو: أن حساباته بِصَمت المجتمع الدولي على ما أقدم عليه كانت في محلها، ولكن الموقع "تركيا" و"الطريقة الرديئة" للعملية قلبت السحر.
31/10/2018