المهندس خليل حلاوجي
هل البيضة من الدجاجة، أم الدجاجة من البيضة؟ هو سؤال يشبه إلى حدّ كبير: هل الدولة من المجتمع، أم المجتمع من الدولة؟ وهل نسعى لتأسيس المجتمع الراشد، فنبحث لنا عن حكومة رادعة، أم عن مجتمع يفطن أهميّة الوعي والرشاد؟
في الفصل التاسع من كتابه (ما وراء الخير والشـر)، ص 243، وهو بعنوان: ما النبيل؟ يقول فيلسوف إرادة القوّة (نيتشه): "ليس النّاس سواسية، فللمجتمع سلّم طويل من الفوارق القيمية بين إنسان وإنسان"، مجتمع به حاجة للعبودية - بمعنى من المعاني - حين يرضى بها، ويبرّر فعل الطغاة. مضيفاً: "إن الحقيقة قاسية، وعلينا أن نقول لأنفسنا - من دون تورية - كيف بدأت كل حضارة على الأرض، حتى الآن". لقد قضت جماعة البرابرة على أعراق الضعفاء والمسالمين، ممّن اعتاشوا على التجارة، وتربية الماشية.. أو على حضارات متصدّعة كانت على وشك
أن تلفظ أنفاسها.. (انتهى كلامه).
هنا نقف مع القاعدة التي يقرّرها الواقع التاريخي، حيث الأقوياء يستهلكون الضعفاء، يغتالونهم، يستعمرونهم، يسرقون غدهم، ويبيعون أحلامهم للأوهام!
(نيتشه) يمجّدهم، ويتّهم الضعفاء، ويقول: التنازل عن الامتيازات علامة على الانحطاط. ويضرب (نيتشه) لذلك مثالاً "حين تتخلّى الارستقراطية الفرنسية عن امتيازاتها، وتقدّم ذاتها قرباناً على مذبح شعورها الخلقي الجامح، فإنّ ذلك فسادٌ دام قروناً". (انتهى كلامه بتصرّف)
تاريخنا يؤكّد تلك اللحظة التي ذاق فيها سيدنا بلال بن رباح طعم التخلّص من عبودية سيّده، بعد أن سمح لنفسه، ولسنين طوال، أن يرضى بالذلّ على يديه، فلم يستطع التفكير في الفكاك من أسر تلك العبودية المبرّرة مجتمعيّاً لو لم يقدّم له الإسلام البديل العقلاني، ويعيده إلى فهم ذاته من جديد، كونه مخلوقاً لله تعالى واهب الحرية للجميع.. وبذلك تحصلّت عند بلال قوّة كامنة، لأنّه اكتشف وعيه وقيمته عند الله، فلم يشعر بثقل الصخرة التي وضعوها على صدره الشريف، لأنه منشغل بما هو أكثر أهميّة.. انشغل بحريّة الله تعالى له، وطعم التخلّص من أسر الذلّ، وطعم الاستخفاف بوجوده بين البشر، الذين كلّهم سواسية عند الله؛ الفارق الوحيد بينهم هو في بذل المنافع للناس، وتقوى الله تعالى ..
إنّها مفارقة المجتمع الذي يرضى بالعبودية، والمجتمع الذي يرفضها، ويفضح الملأ من قريش من كبراء الطغاة.. بلال فهم جوهر الشـريعة التي جاءت لتحرّر الإنسان، وتعينه على استبدال آليّة (التسلّط) بآليّة (الإقناع)، فلا يمكن لأحد أن يفرض شروطه على غيره قسراً وتجبّراً. وتتّضح هذه الطريقة الجديدة في التفكير مع مشهد مأساوي حيث مقتل الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، وهو الخليفة الشـرعي للمجتمع الذي يستفتح معالم (الرشاد)، حيث حصل الاعتراض المذموم، وتعرّضت قيمة الرشاد المجتمعي إلى امتحان عسير.. ودمه المسفوك أنتج الدولة الأمويّة فيما بعد، والتي بدورها أنتجت الدولة بصيغتها العباسية. وبالتالي، ظهور الدولة الفاطمية، والأندلسيّة، بصور شتّى، حتّى كانت الدولة العثمانية في نهاية المطاف.
كلّ تلك التحوّلات في بنية الدولة القائمة على (الشوكة) والمنعة والعصبة، بتعبير ابن خلدون، وهي غير دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والقائمة على (الإقناع)، كبديل للتسلّط المقيت؛ هي دولة يكون المواطن فيها هو (الخليفة)، وفق استدلال الآية الكريمة في قول الله تعالى لنا: {إني جاعل في الأرض خليفة}، المواطن الذي له القدرة على محاكمة الحاكم عن طريق الحوار والنقاش والتمحيص، حيث الحاكم هو الراعي لمصالح العباد، وحماية حقّهم في الحرية، فلا إكراه في الدين، ولا إكراه في الشأن السياسي، ومن حق الطرف الأضعف - وهو المواطن - أن يقف بكل شفافية، وفي قلب المسجد، ليحاكم الخليفة، ويعترض على أخذه قطعة قماش إضافية، كما حدث مع سيّدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وكما حصلت الكثير من المدافعات والمناقشات مع سيدنا أبي بكر من قبله.. على الرغم من أن هذا الحوار تُشوِّهه لحظة مقتل الخليفة الثالث..
إلا أن ذلك يمنحنا صورة شديدة الوضوح لما كانت عليه رؤية النبي - عليه الصلاة والسلام - مع ولادة دولة الرشد، حيث المجتمع مؤهّل لمراقبة حكامه ومحاسبتهم، فالحاكم يكون مسؤولاً عن مراقبة العدالة الاجتماعية بين شرائح المجتمع؛ بين الزوج والزوجة؛ والبائع والشاري؛ الأحرار والعبيد؛ الأغنياء والفقراء؛ المستضعفين والمستكبرين، فلا تقبل هذه الدولة بالطغيان، بجميع صوره وأشكاله، لأن الشريعة ذاتها لا تقبل بذلك، بل هي تحمي الضعفاء، وترد إليهم حقوقهم، وتردع الأقوياء وتنذرهم بالعقاب إن تجاوزوا حدودهم.
وهنا يتّضح أن (الحكمة)، وليست (القوة)، مَنْ رسمت كلّ تفاصيل المشهد للحياة اليومية، وذاق الجميع طعم التوافق المجتمعي، الذي تحكم حدوده العدالة، إلى حدّ لحظة اغتيال الخليفة بأيدي صحابته أنفسهم، فبرزت القوّة من جديد لتتصدّر المشهد، وإلى يومنا هذا، حيث الاغتيالات هي إحدى طرق تداول السلطة!
فعاد سؤال (نيتشه) من جديد.. ما النبيل؟ وبمعنى أدقّ ما الحاكم النبيل؟ وما المحكوم غير الذليل؟ إنها حلقة مفرغة لا نزال نخفق من الفكاك منها.. اللهم إلا إذا أردنا أن نصل إلى المجتمع الراشد، فعلينا أن نشيع بين فئات المجتمع الكفّ عن التظالم واغتيال الحقوق فيما بينهم؛ حيث النظرية القرآنية في الأمن المجتمعي، قول الله تعالى لنا: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}، فهذه الآية تخاطب المحكوم وتقول له وبلغة واضحة: يا أخي لا تقبل بالظلم، وكن كبلال بن رباح الذي ذاق طعم التحرّر. هذه الآية تخاطب الوعي المجتمعي بأن عليه رفض كل صور القبول بالذل.. عندها سنكون قد أكملنا الاستعداد للعيش في رحاب عدالة الله جلّ وعلا.
الكاتب في سطور:
- خليل إبراهيم شكر حلاوجي. من مواليد الموصل 1967م.
- خريج: جامعة بغداد - كلية الهندسة 1989م، وجامعة الموصل – كلية التربية/ قسم علوم القرآن 2011م.
- عمل مدرِّساً للغة العربية، ثم مديراً لثانوية الأوائل الأهلية.
- معد ومقدِّم برنامج (البوصلة)، وبرنامج (ليس صحيحاً) من على شاشة الفضائية الموصلية.
المصدر: مجلة الحوار